طبيعي أن يؤثر الإسلام في موضوعات الشعر الأموي ، وهو تأثير يقوى ويضعف حسب نفسية الشعراء ، إذ كان بينهم من تعمَّقه الإسلام ومن لم يتغلغل إلى أعماقه ، على أنهم جميعًا كانوا يستظلون بظلاله ، وكان من حولهم الوعاظ والنساك يذيعون في مختلف الأجواء عبير وعظهم ونُسكهم ، سواء في المساجد الجامعة أو في مقدمات الجيوش الغازية ، وكانوا ما يزالون يحدثون الناس عن البعث والثواب والعقاب ونعيم الجنة وعذاب النار داعين دعوة واسعة إلى التقوى والزهد في متاع الدنيا . وترامت من هذه المواعظ ومن القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة الأولين أشعة كثيرة نفذت إلى نفوس الشعراء وانعكست في أشعارهم على اختلاف موضوعاتها ، فكلنا يعرف ، ما أصاب الغزل بتأثير الإسلام من براءة وطُهر وصفاء ونقاء عند شعراء نجد وبوادي الحجاز وعند فقهاء المدينة ومكة ، مما هيأ لظهور الغزل العذري بل لشيوعه ، وكأنما أضفى الإسلام على المرأة وعلاقاتها بالرجل عند هؤلاء الشعراء ضربًا من القدسية ، أحاطها بهالة من الجلال والوقار ، فإذا الشاعر لا يدنو منها إلا في احتياط ، بل إذا هو يرى دونها صعابًا أي صعاب ، فيتحول إلى نفسه يشكو ما أصابه من تباريح الحب وأوصابه شكوى تشف عن ألمه وعذابه في حبه ، وهي شكوى يضرع فيها أحيانًا إلى ربه على شاكلة قول جميل :
إلى الله أشكو لا إلى الناس حُبَّها ..... ولا بد من شكوى حبيبٍ يُرَوَّعُ
ألا تتقين الله فيمــن قتلْتِــهِ ..... فأَمسى إليكــم خاشعًا يتضرَّع
فياربِّ حَبِّبنْي إليها وأَعْطني الـ ..... مودَّة منها أنت تعطي وتمنـع
ونرى الغزليين جميعًا عذريين وغير عذريين يستلهمون في غزلهم بعض الأفكار الإسلامية كفكرة العفو والغفران . يقول عمر بن أبي ربيعة :
فديتُكِ أطلقي حَبْلي وجودي ..... فإن الله ذو عفوٍ غَفورُ
وقد أمضى غير شاعر يردد فكرة الإثم في القتل وعقاب الله لقاتل النفس المؤمنة ، ونرى الفرزدق يفصِّل هذه الفكرة تفصيلاً في إحدى مقطوعاته ، فيقول :
يا أخت ناجيةَ بن سامةَ إنني ..... أخشى عليك بَنيَّ إن طلبوا دمي
فإذا حلفتِ هناك أنك من دمي ..... لبريئةٌ فتَحَلَّلي لا تأثمـي
فلئن سفكِت دمًا بغير جريرةٍ ..... لتخَلَّدِنَّ مــع العــذاب الألأمِ
ولئن حملتِ دمي عليك لتَحْمِلنْ ..... ثِقْلاً يكون عليك مثــل يَلَمْلَـمِ
وإذا كان الفرزدق توسَّع في فكرة القتل على هذا النحو ، فأضاف إليها الاستثناء من اليمين وما ينتظر القاتل في غير جناية من عذاب الآخرة فإن وضاح اليمن يستغل فكرة الحلال والحرام ويشفعها بفتوى الترخص في اللَّمم يقول :
إذا قلتُ يومًا نَوِّليني تبسَّمتْ ..... وقالت معاذَ الله من فعل ما حَرُمْ
فما نوَّلتْ حتى تضرَّعت عندها ..... وأعلمتُها ما رخَّص الله في اللَّمَم
وواضح أنه يقصد باللمم النظرة وما يماثلها ، وكل ذلك جاء وضاحًا ومن ذكرناهم بتأثير الإسلام الذي كان يخالط قلوبهم ، فإذا ألفاظه وأفكاره تمتزج بمعاني الحب وألفاظه.
وإذا تحولنا إلى المديح وجدناه يتحول في كثير من جوانبه إلى تصوير الفضيلة الدينية في الممدوح ، ووثَّق هذا التصوير في مديح الخلفاء والولاة أن الحكم والدين كانا مرتبطين ارتباطًا لا تنفصم عُراه ، فمضى الشعراء يتحدثون عن تقواهم وأنهم يقيمون ميزان العدالة السماوية بين الرعية ، ونشب صراع حاد بين الأمويين من جهة والخوارج والشيعة من جهة ثانية في الحاكم الأعلى للمسلمين وما ينبغي أن يتحلى به من صفات دينية . ولم يلبث شعراء بني أمية أن نفذوا من ذلك إلى تمجيد الأمويين ورسم إطار ديني لكل منهم ، وكان عمر بن عبد العزيز مثالاً حقًا للحاكم الأموي التقي ، فأكثر الشعراء من رسم إطار التقوى الذي يُطيف به وبحكمه ، على شاكلة قول كُثَيِّر :
وصدَّقتَ بالفعل المقالَ مع الذي ..... أتيتَ فأمسى راضيًا كلُّ مسلمِ
وقد لبِسَتْ لِبْسَ الهَلُوك ثيابها ..... تراءَى لك الدنيا بكفٍّ ومِعْصَمِ
وتومض أحيانًا بعينٍ مريضةٍ ..... وتَبْسِمُ عن مثل الجُمان المنَظَّمِ
فأَعرضتَ عنها مشمئزًا كأنما ..... سَقَتك مَدُوفًا من سِمامٍ وعَلقَمِ
تركتَ الذي يفنى وإن كان مونقا ..... وآثرت ما يبقى برأيٍ مصمِّمِ
وأَضررت بالفاني وشمَّرَت للذي ..... أمامك في يوم من الشر مُظْلِمِ
وهو لا يصور في عمر التقوى فحسب ، بل يصور فيه أيضًا الزهد والإعراض عن الدنيا وفتنتها ومتاعها الزائل الذي يغُرُّ الناس من حوله . وتتسع هذه الصورة في مديح الشيعة لأئمتهم على نحو ما نجد في هاشميات الكُميت وفي شعر أيمن بن خُريَم إذ يقول في بني هاشم :
نهاركمُ مكابدةٌ وصومٌ ..... وليلكم صلاةٌ واقْتراءُ
ولِيتم بالقُران وبالتزكي ..... فأَسرع فيكمُ ذاك البلاءُ
وعلى نحو ما تأثر المديح بالإسلام ومثاليته الروحية تأثر الهجاء ، إذ أخذ الشعراء يهجون خصومهم بانحرافهم عن الدين ، فأطالوا في وصفهم بالفسوق والبغي والطغيان كقول جرير في آل المهلب :
آلُ المهلب فرَّطوا في دينهم ..... وطغوْا كما فعلتْ ثمود فباروا
ودائمًا يرمي شعراء الشيعة الأمويين بالظلم وانتهاك الحُرمات وتعطيل أحكام الدين وابتداع ما لم يأتِ به كتاب ولا سنة من مثل قول الكميت :
لهم كلَّ عامٍ بدعةٌ يحدثونها ..... أَزلّوا بها أتباعهم ثم أَوْحَلُوا
كما ابتدع الرهبان ما لم يجىء به ..... كتابٌ ولا وَحيٌ من الله مُنْزَلُ
تَحِلُّ دماءُ المسلمين لديهمُ ..... ويَحْرُمُ طَلْعُ النَّخْلة المتهدِّلُ
واشتد لهب الهجاء - كما قدمنا في غير هذا الموضع - بتأثير العصبيات ، ولم يكد ينجُ منه خليفة ولا وال ولا شريف ، بل حتى القُرَّاءُ كان يتعرض لهم الشعراء ، خاصة إذا رأوهم يداجون أولي الأمر ، فكانوا يرمونهم بالنفاق وأنهم ليسوا صادقين فيما يظهرون من تقوى وصلاح ، على شاكلة قول ذي الرمة ساخرًا من إحدى طوائفهم :
أما النبيذ فلا يَذْعَرْك شاربُهُ ..... واحفظ ثيابك ممن يشرب الماءَ
قومٌ يُوَارُونَ عما في صدورهمُ ..... حتى إذا استمكنوا كانوا همُ الداءَ
مشمِّرين إلى أنصاف سُوقِهم ..... همُ اللصوص وهم يُدْعَوْن قُرَّاءَ
ولعلنا لا نُبعد إذا قلنا إن شعر الحماسة كان أقوى في تأثره بالإسلام من شعر الهجاء والمديح ، إذ كان يُنْظَمُ أكثره في الجهاد ، ومعروف أنه كان دائمًا في صفوف المحاربين قُصَّاصٌ ووعاظ يحثونهم على الاستشهاد في سبيل الله ، حتى يفوزوا برضوانه ، ومن ثمَّ تحولت بعض القطع الحماسية التي نُظمت في خراسان إلى مواعظ خالصة ، كقول نصر بن سيَّار :
دَعْ عنك دُنيا وأهلاً أنت تاركهم ...... ما خَيْرُ دُنيا وأهلٍ لا يدومونا
وأكثر تُقَى الله في الأَسرار مجتهدًا ...... إن التُّقىَ خَيْرُةه ما كان مكنونا
واعلم بأنك بالأَعمال مُرْتَهَنٌ ..... فكن لذاك كثير الهمِّ محزونا
وامنَحْ جهادَك من لم يَرْجُ آخرةً ..... وكُنْ عَدوًّا لقومٍ لا يصلُّونا
فاقتلهمُ غَضبًا لله منتصـــرا ...... منهم به ، ودعِ المرتابَ مفتونا
وواضح أن نصرًا يزهد في الدنيا ومتاعها الفاني بما يذكر من هلاك الأهل ، ويدعو إلى التقوى في السر والخفاء مذكرًا باليوم الآخر وما ينبغي أن يُتَّخذ له من ذخر الجهاد والذبِّ عن دين الله سبحانه وتعالى ، وبيع النفس في محاربة أعدائه.
وكانت حرب الخوارج حربًا دينية خالصة ، أما هم فآمنوا بأنهم على الحق وأن المسلمين من غيرهم خرجوا على حدود الله عز وجل وأنه ينبغي جهادهم حتى يعودوا إلى حياض الشريعة . وبنفس الصورة كان يراهم المسلمون من خصومهم ويرون جهادهم فرضًا مكتوبًا ، وبذلك كانت أشعار الطرفين تُغمسُ غمسًا في العقيدة الدينية ، فهم إنما يحاربون من أجلها وفي سبيلها ، ونحس كأنما غاية كل خارجي أن يُقْتَلَ حتى يُكْتَبَ في سجل المستشهدين.
وكان شعر من حاربوهم يسيل بالدعوة للاستبسال في الحرب وجهاد هذه الفرقة التي زاغت في رأيهم عن طريق الهدى ، ومن خير ما يصور ذلك قول كعب الأشقري في ملحمته الطويلة التي وصفَ فيها قتال المهلب للأزارقة وقضائه عليهم :
إنا اعتصمنا بِحَبْلِ الله إذ جَحَدُوا ..... بالمُحْكمات ولم نكفر كما كفروا
جاروا عن القَصْد والإسلام واتبعوا ...... دينًا يخالف ما جاءَت به النُّذُرُ
وكان كثيرون يُقتلون في هذه الحروب ، فكان الشعراء يندبونهم ندبًا حارًا ، مازجين ندبهم بما ينتظرهم من نعيم الخلد ، كقول الضحاك بن قيس يرثي بهلولاً الصُّفْرِيَّ الذي خرج لعهد هشام بن عبد الملك وقُتل:
يا عَيْنُ أذْرِي دموعًا منك تَهْتانا ..... وابكي لنا صُحْبةً بانوا وإخوانا
خَلُّوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها ..... وأصبحوا في جِنان الخلدِ جيرانا
وتعمُّ هذه الروح الدينية في مراثي من قُتلوا من العلويين منذ علي بن أبي طالب ، وقد تحول مقتل الحسين منذ حدوثه إلى عويل وتفجع رهيب ، وكان من يرثون الأمويين يستشعرون هذه الروح في مراثيهم ، كقول جرير في عمر بن عبد العزيز :
حُمِّلْتَ أمرًا عظيمًا فاصطبرتَ له ..... وقمتَ فيه بأَمر الله يا عمرا
بل لقد طُبعَ الرثاء عامة بطوابع هذه الروح وما يُطَوْى فيها من التسليم لله والرضا بقضائه ، فكلُّ نفس ذائقة الموت ، وهو حتمٌ في رقاب العباد ، وعليهم أن يتذرَّعوا إناءه بالصبر الجميل . وعلى هذه الشاكلة كان الإسلام يؤثر في نفسية الشعراء ، وانعكس هذا التأثير على الموضوعات المختلفة التي نظموا فيها حتى وصف الصحراء ، فإننا إذا قرأنا هذا الوصف عند ذي الرمة أحسسنا أن قلبه يمتلىء بالرحمة والشفقة والعطف البالغ على الحيوانات.
وليس هذا كله جميع ما أثَّر به الإسلام في الشعر الأموي ، فإنه فجَّر ينبوعًا ، كان قد أخذ يسيل منذ ظهور الإسلام على ألسنة بعض الشعراء ، ولكن سيله لم يبلغ ما بلغه في هذا العصر ، ونقصد ينبوع الزهد وما يُطْوَى فيه من الدعوة للعمل الصالح . كثرة من الشعراء تدفق على لسانهم هذا الينبوع الغزير ، بحيث أصبح موضوعًا قائمًا بنفسه ، وبحيث أخذ فريق من الشعراء الذين لم يُعرفوا بزهد يستظهرون صورًا إسلامية كثيرة في شعرهم ، بل حتى نجد الفرزدق المستهتر ينظم قصيدة في إبليس الرجيم . ولم يصطبغ الشعر وحده بالمثالية الدينية وما يرتبط بها من معانٍ ، فقد جاراه الرجز في هذا الاصطباغ حتى لنجد رجازًا كثيرين يبدءون أراجيزهم بحمد الله ، وقد يمضون فيتحدثون عن خلق السماوات والأرض ، وكثيرًا ما يضيفون أدعية وابتهالات لربهم .
والحق أن الإسلام أثَّر أثرًا واسعًا في نفوس الشعراء ، وهو أثر ما زال يتعمق نفرًا منهم حتى انقلبوا وعاظًا يعظون الناس ويذكرونهم باليوم الآخر وما ينتظرهم من الثواب والعقاب ، وهم في أثناء ذلك يتحدثون عن الموت وما تخرَّم من قرون بعد قرون ، كما يتحدثون عن الدنيا ومتاعها الزائل ، مصوِّرين طريق النجاة وأنه يقوم على التقوى والعمل الصالح ومجانبة كل خلق رديء من مثل الكبر والبخل والخيانة ، والتحلي بكل خلق كريم من مثل التواضع والجود والأمانة.